shimery.com
New Page 1
 
shimery.com



سفارة اليمن بمصر


مقالات                      

تفاصيل المقالة
رحيل فارس وقلم  
  إفتتاحيات مجلة المثقف العربي

  العدد(32)     صدر بتاريخ (2003)

كم كان بودي الحديث عن أنجح مهرجان فكري ثقافي شاركت فيه خلال هذا العام في مدينة فاس الساحرة بمغربنا الحبيب. وكم أفدت من رحلتي هذه واستمتعت بخيمة الفكر والإبداع التي نظمتها جمعية " فاس سايس" تخليدا لروح الخليل الفراهيدي، لكن قدري الدائم، وحظي المقسوم أن أقرأ ما لا أرغب، وأن أكتب خلاف ما أعلم، وأن اقول خلاف ما أسمع، لأنني في كبوة القيود غير المرئية أرسف، وفي ظل شجرة جرداء أجلس في الهاجرة على رمال الأوضاوع العربية القاحلة.
ومن حيث يجب الوفاء، أتقدم بأناتي هذه على روح ذلك الصديق الذي ندمت بعد رحيله على خذلاني له به خلال زيارتي للولايات المتحدة في صيف 1993م، حينما دعاني فاعتذرت وتجالسنا على غير ميعاد في ( أتوى) و ( مونتريال) بكندا، وتلطف بي لإقناعي بأن المحرقة اليهودية صحيحة ومتحفها بنيويورك جدير بأن يزار، يومها كنت لا أعرف حقيقة هذا الرجل المسيحي، ولا أحمل فكرة بريئة عنه وأمثاله، لكنه رغم صرامته في الحوار، أمال قلبي إليه، وأقنعني بقراءة بعض إصداراته الأولى من كتابه الشهير ( الاستشراق)، فلم أكن يومذاك عاقلا في حواري معه رغم طول جلوسي بجواره، وافترقنا ولم أتمكن من قراءة إهداءاته الرائعة إلا بعد عودتي إلى صنعاء.
وهناك غير موازيني، واقتاد زمام خطابي في أصابعه، وأثر على بقوة حجته، وملكته، وسعة معلوماته، التي سخرها للدفاع عن العرب، ولغتهم، وعن تاريخ الإسلام، وعن فلسطين وقضيتها العادلة، حتى وجدتني أشك في أنه إلا مسلما ينافح عن الكتب المقدسة والتاريخ، ويدافع عن الفتوح الإسلامية.
ورغم اعتذاري له بالمراسلات فيما بعد، وإصراره على أنني لم أخطئ أبدا في حديثي معه، إلا أنني كنت سعيدا أن اقترح تكريمه على " مؤسسة الفكر العربي" التي ما فَتاتْ أن باركت، وكرمته في إشهارها الأول سنة 2002م بالقاهرة، لكن أين مني ومنها إدوارد سعيد؟ !! هيهات أن يحضر لاستلامها، لأنه مشغول مشغول ولهفي عليه بمعركة غير متكافئة مع الورم الخبيث في المستشفي الأمريكي، لم تعد تنفع اليوم عبراني على غيابه وجثمانه الذي دفن تحت ثرى القدس منقولا من أمريكا، ولا ينفع أسفي على قلمه وفكره الذي غاب في ضَحْوَةِ يوم معتم متبلد الأفق من الصراع الشرس بين الحق والباطل.
أما الفارس الثاني الذي ترحل عن جواده، واستشلم للأسر وهو ما يزال على صهوة جواده محاربا منتصرا، هو أشهر صحفي عربي ومحلل سياسي، ألقى سلاحه إلى النهر، ورفع يديه، هو الأستاذ محمد حسين هيكل الذي استأذن في الانصراف عندما بلغ الثمانين، وعلمي الأكيد أن الرجل ما يزال بعيدا عن بلوغ سن الاعتزال السياسي خاصة وأنه لم يكن منطبقا على حاله قول الشاعر:

قالوا أنينك طول الليل أرقنا*** فما الذي تشتكي قلت: الثمانينا
لقد كنت حديث عهد بزيارة خاصة في مكتبه المطل على النيل بالجيزة، وكان كأنه لؤلؤة شفافة صحة وبهاءً، وكان على مدى الساعة التي جلسانها لا يتردد في شرح طموحات ومشاريع كتابية، وبالنص قال: لا ينقصني منبر أخاطب الجماهير من خلاله وإذن " فما عدا مما بدا" للأستاذ هيكل.
إنني رغم حبي له كاتبا ومحللا، ومفكراً أرفع يد التأييد لانسحابه وانصرافه، فهذا زمن التحرك والتجدد، ودوام الحال من المحال.
لكنني أملك رؤى أود أن أوضح بعضها للأستاذ هيكل رغم أني معه. وألخصها في صراحة ووضوح، لا يعتريني خوف ولا جزع لأن العصر ليس عصر هيكل عبد الناصر، ولكن عصر ( يديعوت احرونوت) وعصر ( توني مايكل)و( كونداليزا رايس) .
فالأستاذ هيكل لم يعد في حوزته من المعلومات التي كانت السرفي أهمية مضمون كتاباته، وقد نضب معين الأرشيف للعصر الناصري تحت يديه، ثم لم يعد فيها شيء خفى، ولو كان هناك ما لم ينشر فلم تعد له قيمة في كشف الصراع الإقليمى والدولي المعاصر خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
وكانت آيات الأرشيف والذاكرة الناصرية لأهم عَقْدين من عقود القرن المنصرم هي سر قوة هيكل وهي سر قوة هيكل وهي وقود الإشعاع في قوانيسه التي أشعلها في كتب مهمة ومقالات كثيرة.
وثانيا لم تعد كتابات الأستاذ هيكل، وخاصة الأخيرة منها جذابة ومغرية لأنها أصبحت كلمات مكررة لأخبار غير جديدة، وتحليلات لا تتمتع بمبررات قوية أو حديثه، كما كانت طويلة من حيث المضمون، ولكن المحرج لي ولأصدقاء هيكل وأنصاره أن نرى جبهة قوية حملت سيوف المواجهة الفكرية، والتاريخية وذهبت تعادي الصف الهيكلي وتدعو إلى مبارزته قبل الانصراف ؛ بحقائق أخفاها، أو وثائق غَفَل عنها.
وها أنا ذا أشفق على الأستاذ هيكل أن ينسحب وينصرف ويدعنا نواجه الكاتب الصحفي محمد ثروت حفيد الرئيس محمد نجيب الذي يدعو إلى المبارزة ويعرض بكل شيء ذكره هيكل، وهو دائما يتصدى للموضوعات الحرجة، حيث ما يزال حديث عهد بصراع مع بعض الأنظمة العربية التى جابهها بكتابه ( الجمهوريات الملكية) ، وناقش مع الزعماء وبلى أخبارهم فهي القضية التي يعتبرها الزعماء العرب قضية القضايا.
محمد ثروت في آخر زيارة له كان واثقا أن لديه حقائق تدحض شبهات أوردها هيكل وتنفي وقائع أثبتها دون أدلة ثبوت.
كيف يترجل الفارس هيكل، ويدعنا نواجه الأسئلة الحرجة التالية؟ يسأل أحدهم ألم يكن هيكل منظراً لعصر ديكتاتوري ارتكبت فيه أشنع المظالم وأبشعها؟
وآخر يتساءل عن مهمة كتابات الأستاذ هيكل وهدفها الأوحد، أهو أن يرفع فقط من شأن سيف الدولة البكباشي؟ أم ليضع من قدر كافور الإخشيدي الملك العظيم الذي استطاع المتنبي أن يجعله أسوأ رجل في التاريخ؟
كما أان "هيكل" العملاق المحارب صحفيا متهم بقيامه بدور المؤرخ الذي صور هارون الرشيد الخليفة العظيم بأنه زير نساء، وطبال سمر.
وكان هيكل كالمؤرخ الذي لم يبرز من عصر ما قبل النهضة الشعرية إلا رباعيات الخيام والخمريات، ولم يكشف أنه كان كبير الرياضيين في عصره، ولكنه فقط أبرز له جانب الخمريات، لقد وجدنا لااليوم فريقين قويين يتحدثان عن موضوع اعتزال هيكل وانصرافه من الساحة فقائل:
ماذا لو أن عبد الناصر بقي دون الاتحاد الاشتراكي المرحوم، وبقيت الدولة بدون حزب؟ ! ماذا لو أن عبد الناصر دخل في حلف مع الأنظمة العربية التي سبق له التحالف معها في شكل اتحاد عربي وألغاه عام 1961م وخاصة الملك فيصل والملك حسين؟ ؟ !
ماذا لو أن عبد الناصر لم يؤمم إحدى أهم الصناعات الخفيفة في مصر، ويطرد أصحابها ويجرد مصر منها، وخاصة أننا اليوم نبحث عن سبيل لإعادة بنيتها من جديد واستقدام أجانب بإغراءات ليقوموا بها ؟؟! ماذا لو ركز على بناء جيش في اليمن من أول يوم قامت فيه الثورة ليحمى الجمهورية وترك الجيش المصري لحماية سيناء من هجمات إسرائيل ؟؟! ماذا لو لم تلغ الطبقة المتوسطة في التجارة والصناعة والتعليم، وحصرت الحراسة والتأميم في إطار المستغلين فقط بتملك سلطوي وترك للقطاع الخاص حق الإنتاج ؟؟!
إن الأستاذ هيكل محارب ماهر، وهو الرجل المؤسسة الذي نجح إلى حد بعيد، ونكبرُ له إخلاصه ووفاءه لأصدقائه أحياء أو أمواتا في ظل كافة الظروف والأحوال، ونرى فيه أستاذية جيل كامل من الجمع والتوثيق والتحليل، ومحاسنه القلمية والفكرية كثيرة وغزيرة، لكن العصر الذي استجد بعد زمن هيكل وعبد الناصر أصبح يتطلب قواعد تفكير جديدة، وأرشيفا جديدا يتوافق مع طبعية الهيمنة الدولية الأمريكية.
ونتمنى على الأستاذ هيكل البقاء في خندق المواجهة الحالية والمستقبلية لأن المعركة تتطلب حشد كل المواهب والعقول، وليس بالضرورة الاستمرار في الحديث التاريخي عن الماضي الذي لم يعد محل اهتمام كبير إذ لم يكن مؤثرا على مجريات الأحداث اليوم، ولكن المعركة لأي محارب كان هي معركة عودة الاحتلال وحكم الانتداب، وامتلاك إسرائيل ( فيتو) ونوويات و( نيترون) وسيطرة على الاجواء والفضاء والثروة والقوة، هي قضية البحث عن مضاد حيوي فعال، مضاد لفيروس التخاذل العربي، والتشرذم السياسي والاقتصادي، هي قضية التصالح بين الأنظمة والشعوب العربية.
وماذا عن دخول سوريا طوق الحصار الأمريكي، والعزلة الدبلوماسية،ومادور الغرب والمسلمين حيال ذلك ؟؟! وهل هناك أمل في قدرة العرب على الوقوف مع سوريا على الأقل باحتواء منتجاتها وتعويضها بعاطفة عربية، ليس بعقد قمة وبيان شجب، ولكن بفتح الحدود، وإلغاء الجمارك، ورفع قيود تأشيرات العمل والتنقل، والتجارة ، والسياحة، وتقديم لها بدائل تعويضية.
أم أن العرب قد تعودوا الالتزام بالتعليمات الأمريكية وقرارات مجلس الأمن التي تصدر ضد العرب فقط، وهي بيد أمريكا وإسرائيل وسيبدءون الحصار والمقطاعة، ومنع التبادل التجاري،ن وتحت شعار احترام الأمم المتحدة.
إننا فقط اليوم نودع الراحلين، والمنصرفين، ولم نبشر بموهبة جديدة أو قدرة جبارة تكون قد انضمت إلى صف المناصرينن والمنصفين.
رسالة: الصديق الأديب قبل الزعيم صاحب الفخامة عبد العزيز بوتفليقة، كما عهدناك أديبا، بليغا،وصديقا نحزن لحزنه، ونفرح لفرحه، نرجو ونتمنى أن تتجاوز المرحلة الصعبة بنجاح، ولكننا نوصيك أن تحافظ على صفتك رئيسا منتخبا ديمقراطيا بأغلبية الناخبين، وليس بقوة السواعد ورفاق السلاح، ولا ينكر أحد عودة الثقة بالوضع الجزائري بعد البركان خلال فترة رئاستك.
فلا تضيع فرصة تخليد هذه اللوحة المشرقة في غبار التنافس المحموم للصراع على البقاء في السلطة.
فالبقاء في القلوب أهم من البقاء على كرسي لا يدوم...

 
  رجوع 
shimery.com
مقالات | ألبوم الصور | مؤتمرات | لقاءات صحفية | نشاط ثقافي
لمراسلة موقع السفير راسلنا علي
info@shemiry.com